Tuesday, 12 August 2008
إذا كان شيطان الشعر قدماً قد ألهم الشعراء وأوحي إليهم ليستشعروا ، فإن فلسطين وقضيتها ، والتحرر الوطني وحركته ، والإنسانية وهمومها ، هي التي ألهمت مجتمعة الشاعر محمود درويش لينال بجدارة لقب شاعر المقاومة في الأرض المحتلة ، وشاعر القضية الفلسطينية وحركات التحرر ومن ثم الإنسانية ، أذكر انه عندما كنا طلاباً في
المرحلة الثانوية، كنا نتباهى ونفتخر بحفظ أهم قصائد محمود درويش وأخص منها بالذكر قصيدة "معكم" التي نظمها إبان الثورة الكردية التي اندلعت في كردستان العراق للدفاع عن الشعب الكردي ضد الحملات العسكرية الظالمة ، ثم طيّرها على شكل برقية مهداة إلى أبناء شعبنا المدافع عن قضيته العادلة في ذرى الجبال الشماء ، وكنا نعتبره – ومازلنا – صديقاً للشعب الكردي وقضيته العادلة ، وذلك قبل محاولات العروبيين السياسيين بآيديولوجيتهم المبنية على التعصب القومي أن يفككوا هذه الصداقة بحفر خنادق الكراهية والبغضاء بينا وبين هؤلاء الفطاحل من شعراء الأرض المحتلة ، فغيبوا تلك القصيدة من دواوينه ، لكنهم لم ينجحوا في خلق العداوة بين الشعب الكردي وشقيقه الشعب العربي وتغييب الصداقة بينهما وأخص بالذكر الشعب الفلسطيني :
معكم قلوب الناس لو طارت قذائف في الجبال
معكم عبيد الأرض من خصر المحيط إلى الشمال
معكم أبي أمي وزيتوني وعطر البرتقال
معكم عواطفنا قصائدنا جنوداً في القتال
وقصيدته سجل أنا عربي التي يتماهى فيها مع الفقراء والبسطاء والعمال والفلاحين إلى درجة الشطب على ذاته وشخصيته وزهده في الألقاب والتوصيفات
سجل … أنا عربي
أنا اسم بلا لقب
أبي من أسرة المحراث
لا من سادة نجب
وجدي كان فلاحاً
بلا حسب ولا نسب
وبيتي كوخ ناطور
من الأعواد والقصب
فهل ترضيك منزلتي ؟
إنا اسم بلا لقب
وقصيدته الأخرى :
الزنبقات السود في قلبي وفي شفتي اللهب ..
من أي غاب جئتني يا كل صلبان الغضب
وقصيدة يا دامي العينين والكفين التي تنبأ فيها بأن الاستعمار والاحتلال ورموز الطغيان التي أعقبتهما لابد أن تزول :
يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل
نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل
نعم مات طغاة كثيرون وبقيت الشعوب صامدة .
لقد استطاع الشاعر محمود درويش أن يمزق العزلة التي أحاطه الاحتلال بها فعبر الأنهار وتجاوز الحدود والبحار حتى استطاع أن يغرس شعره النضالي المقاوم في كل بيت رداً على سياسة تذويب الشعب الفلسطيني وصهره ومحوه التي كشفها وألقى الضوء عليها مسؤول أوربي عندما قال لجمع من الفلسطينيين : " لقد تم وضع الخطط من أجل تذويبكم والتخلص منكم، ولكنكم برهنتم عن حيوية فائقة، وبدلا من الذوبان بزغ بينكم شعراء وروائيون و… و … و ، كما ذكر شارون للفلسطينيين انه : يحسد الفلسطينيين على محمود درويش " لأنه أظهر للملأ شرعية الانتفاضة السلمية ورد الفعل الصهيوني العنيف عليها في قصيدته " عابرون في كلام عابر " التي كانت بمثابة بيان سياسي إلى الرأي العام العالمي بين شرعية الانتفاضة ، وعدالة رد الفعل الفلسطيني على الممارسات الصهيونية ، وهزم فيها قوة إسرائيل وبطشها ، فقد استطاعت أن تربك الجانب الصهيوني المعادي :
منكم السيف - ومنّا دمنا.
منكم الفولاذ والنار - ومنّا لحمنا.
منكم دبابة أخرى - ومنّا الحجر.
منكم قنبلة الغاز - ومنّا المطر.
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء .
فخذوا حصتكم من دمنا... وانصرفوا
وفي هذه المناسبة الأليمة على قلوب كل الشرفاء والمناضلين والأحرار في العالم ننحني بإجلال ووقار أمام تلك القامة الشامخة ، أمام ذلك الشاعر الإنسان ، أمام شاعر المقاومة الكبير ، أمام نصير المقاومين في كل أنحاء المعمورة ، ثم نذهب إلى جبل الكرمل ونعزيه ، ونقصد جبال الجليل ونعزيها ، ونعزي فيه كل فلسطين والأحرار والمناضلين في العالم ، ونحن متأكدون من أن العظماء لا يموتون لأنهم : " يرحلون كالعصافير إلى بلاد أخرى أكثر جمالا، إلى سماء أكثر اتساعا وآفاق أرحب بألف مرة ولكنهم لا يموتون " لأنهم يتحولون إلى أساطير تحتفظ بها ذاكرة الشعوب .
لقد تحول الشاعر محمود درويش إلى رمز للأمل والتفاؤل لدى كل الشعب الفلسطيني ، واستطاع أدونيس أن يترجم هذه الحقيقة بقوله : " كتب شعره كمثل كيمياء تحوّل الموت إلى حركة حيّة وتخترع الشطآن حتى للقوارب المحطّمة. وحيثما اغتربَ، أقام عاصمة للأمل، جاعلاً من الشعر أرضاً أخرى، وسماء أخرى " فألف تحية إلى شاعر فلسطين والعرب ، وشاعر الحرية والإنسانية وكل عتبنا على الموت الذي لم يمهل الشاعر ليقول ما بقي لديه ، ليشهد ولادة الدولة الفلسطينية الموت الذي شبهه الشاعر بنفسه وقال فيه : إن الموت مثلي لا يحب الانتظار " وكان متأكداً من أن الإنسان يستطيع قهر الموت والتغلب عليه إذا استطاع أن يثبت ذاته بما يتركه ويخلفه لأجيال المستقبل ، والعكس صحيح أيضاً "الموت لا يعني لنا شيئا نكون فلا يكون ، والموت يعني لنا شيئا يكون فلا نكون "
